محصلة ثقافة تعايش رفيعة

 

برهم علي

في خضم اوار لهيب السنين الملتهبة الماضية التي اجتاحت الشرق الاوسط وعموم منطقتنا حيث اكتوى بنار لهيبها كافة اطياف النسيج الاثني للمنطقة، وسط العنف الدموي المذهبي والديني المتفاقم، فان اقليم كوردستان مع انه عاش في دوامة من المشكلات والازمات السياسية والاقتصادية والمالية والمعوقات التي اعترضت مسيرته، قد تحول الى الملاذ الآمن ليس للمسيحيين فقط بل لجميع الاطياف الدينية والقومية والمذهبية من دون استثناء

ان الحالة التي تعيشها كوردستان ليست وليدة السياسة او الدبلوماسية او هي مساع تبغي مدارات المصالح السياسية والاقتصادية لاقليم كوردستان او مصالح احزاب وقوى سياسية وحكومية او مراعاة لمنزلة احد القادة، بل انه نتاج ثقافة ذات جذور عميقة تعود الى آلاف السنين قبل الآن. انها ليست وليدة الحاضر بل هي تحصيل حاصل ثقافة راسخة الاركان

هذه الثقافة الرفيعة هي ثقافة اصيلة متأصلة في ارض الآريين واقوام زاكروس العريقة، انها ثقافة السلام وحب البيئة وسيادة القيم الانسانية والتسامح والجنوح للسلم دون سفك الدماء، ثقافة احترام الرب الخالق وكذلك الارض والماء والهواء والنار وكل الكائنات، ثقافة التودد الى جميع عناصر ومكونات الحياة الانسانية والنباتات والكائنات قاطبة، ثقافة الفكر الحسن والكلام الحسن والفعل الحسن، ثقافة قبائل جبال زاكروس وسفوحها وبلاد ما بين النهرين، هؤلاء الذين بنوا الحضارات المتتالية طوال التاريخ، انها الثقافة الاصيلة لأجداد الكورد والكوردستانيين

هذه الثقافة الانسانية هي كشجرة بلوط معمرة ذات جذع عريض ومتين، قد تضررت هنا وهناك ولمرّات عدة خلال آلاف السنين الماضية من تاريخ هذه الجغرافية بسبب غزوات الجيوش القادمة من خارجها، وايضا بسبب وحشية مقاتلي هذه الجيوش الغازية، نعم هذه الثقافة قد اصيبت بخدوش وجروح بفعل الغزاة القادمين من اصقاع بعيدة مخترقين جغرافية كوردستان، سالت منها الدماء وتعرضت بعض اغصانها للتيبس، واحيانا نرى تعرض هذه الشجرة المعمرة الى صواعق احرقت بعض اغصانها، لكن جذور هذه الشجرة لن تجف ولن تغادر الحياة ابدا وستكون مصدر الخضرة والحياة الدائمة

أي دين، اي مذهب او معتقد ساد وانتشر فوق ارض كوردستان، وقع ايجابيا تحت تأثير هذه الثقافة الاصيلة والرفيعة، وبذلك سلك سكان كوردستان دروب الاعتدال واتبعوا المعتقدات الدينية الاكثر وسطية واعتدالا وطهارة، لذلك فان التطرف الديني لا فرصة لديه للظهور والبروز في هذه الارض، عليه فان اي رجل دين او أي داعية ديني، واي تنظيم سياسي ديني، ان كان ينتمي لأي دين او مذهب، عندما يسعى للدعوة بتطرف في كوردستان، ام انهم حاولوا الترويج للتطرف الديني او المذهبي، نجد مثل هذه المبادرات لا تبرح حتى تذوب كتمثال ثلجي في ظهيرة شمس تموز وتحت تأثير رسوخ ثقافة التسامح الاصيلة في كوردستان، ليتحول هذا التطرف في النهاية الى بخار يتصاعد متماهيا وسط الاثير

القادة والزعماء الكورد بدءا من شيوخ بارزان وصولا الى ملا مصطفى البارزاني والرئيس مسعود البارزاني، هم ابناء هذه الثقافة الرفيعة وعرّابوها، لذلك عندما تعرض الارمن في تركيا للابادة فان شيوخ بارزان قدموا العون والمساعدة لهم وتصدوا لمهمة نجدتهم، لذلك فان في مناطق نفوذ شيوخ بارزان تجد المسلمين سنة وشيعة، المسيحيون الايزيديون والكاكيي، بل وحتى ابناء القوميات من غير الكورد، الكل افراد كرماء ضمن نسيج المجتمع الكوردستاني، الكل كانوا محاربين وبيشمركة في درب النضال التحرري لكوردستان

واليوم عندما جرت مراسم اكبر قداس ديني للمسيحيين برعاية قداسة بابا الفاتيكان على مستوى الشرق الاوسط في ملعب فرانسو حريري في اربيل عاصمة اقليم كوردستان، اليوم عندما تركزت عدسات الاعلام العالمي على اربيل، اليوم حينما وصف الجميع كوردستان بانها المركز الوحيد للتسامح والتعايش الديني في هذه المنطقة، فهذا ايضا نتاج وحصيلة هذه الثقافة الرفيعة ذات الجذور المتأصلة منذ آلاف السنين في كوردستان

انا اذ اكتب هذا المقال لا اتطلع الى تحقيق اي حلم او هدف سياسي لشعبي بعد زيارة بابا الفاتيكان، لكنني اليوم اشعر بالفخر والاعتزاز لكوني كورديا ومن كوردستان.. طالما نحن اصحاب هذه الثقافة الرفيعة، فاننا باقون، لأننا بدفاعنا عن هذه الثقافة سندخل التاريخ بكل مودة ورأفة

 

 

 

 

 

 

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *