الحنين الی الماضي

الحنين الی الماضي

د. عدنان عبدالله

وانا اكتب عبارات هذا الموضوع، اشعر بغصة شديدة تعصر قلبي وتزحزح كياني نحو الانكماش والتلاشي في الذكريات، فلا ادري اهو الخوف من الموت؟ ام هو الاشتياق الی الشبوبة التي لن تعود؟

لا اعتقد ان اي انسان واع لم يمر بما مررت به، فهذا الالم والعنفوان يعتبر من طبائع الانسان السوي، باختلاف الاجناس والاقوام والملل، حيث تشير الدراسات الی ان 80% من البشر ينتابهم هذا الاحساس مرة واحدة اسبوعيا علی الاقل.

علميا، يطلق علی هذا الشعور مصطلح النوستالجيا، ويعتبر آلية دفاعية يستخدمها العقل للتغلب علی الملل والوحدة والشعور بالتقدم في العمر.

والنوستالجيا كلمة يونانية مشتقة من مقطعين، النوستوس وتعني العودة الی الوطن، وألجوس وتعني الالم. وقد كان ينظر الی هذا الشعور من قبل باعتباره مرضا نفسيا يجب مداواته، اما الآن فقد انقلبت الآية واصبحت بمثابة علاج نفسي لاولئك الذين يشعرون بالقلق علی مستقبلهم، وغير مرتاحون لحاضرهم.

وهناك العديد من المؤثرات الخارجية التي تفجّر فينا هذا البركان الهادر، مثل اغنية معينة، او فيلم محدد، او طعام ما، او رائحة عطر اخاذة، او مناسبة مكررة، او حتی ربما حديث نجريه مع الآخرين فيعيد لنا الذكريات القديمة. ان الحنين الی الماضي، معناه ان الماضي كان افضل. ولكن، هل هذا الكلام صحيح علی علاته؟

اننا نظن، ان الماضي باحداثه التي عشناها، كانت اجمل من الحاضر، مع العلم ان ماضينا لم يكن ورديا دائما. وعن هذه الفكرة، صنعت هوليود سنة 2011 فيلما اسمه (منتصف الليل في باريس) من اخراج المبدع ودي آلان. وقصة الفلم تدور حول شابين، رجل امريكي وخطبيته، يسافران الی باريس لتمضية عطلتهما هناك، وهناك تنشب بينهما مشاكل وهما في قلب فرنسا. فيترك الشاب خطيبته لتهدأ، ويسير هو وحيدا في احدی شوارع مدينة باريس، ليفاجأ بسيارة من طراز قديم تأخذه الی باريس آخر، الی باريس في حقبة العشرينيات من القرن الماضي، ليقابل هناك مشاهير الفن والادب بعد منتصف الليل. هذه الرحلة عبر الزمن جاءت لأن هذا الشاب اعتقد ان الماضي كان احسن من حاضره، لكنه يصاب بالذهول عندما يری ويسمع هؤلاء العظماء ينتقدون حاضرهم، ويتمنون العودة الی القرون الغابرة، باعتبارها كانت افضل.

ان هذا الفلم يحاول ان يخبرنا اننا عندما نحن الی الماضي في حاضرنا، ففي ذلك الماضي الذي عشناه، نسينا اننا كنا نلعنه ونتمنی ماضيا امضی منه، وهكذا دواليك. ولذلك، عندما نجتمع مع الناس الآخرين في مجالسنا، فان بعضا من احاديثنا، لابد وان تدور حول ان الماضي كان افضل واجمل واحسن، مع العلم ان لكل زمان سلبياته وايجابياته.

وبذا، اقول، بان هذا الامر اصبح شائعا جدا، والسبب في اعتقادي هو صعوبة الحياة الحديثة وتشعبها، وكثرة الازمات، وتزايد متطلبات العيش الكمالية، مقارنة بالحياة البسيطة فيما مضی.

لكن الانسان العاقل، يجب ان لا يتمسك دائما بماضيه ويعيش دقائقه دوما، لأن ذلك سيؤدي به الی الاستهانة بحاضره، فلا يقتنع بما يملكه، فيخسر حاضره ويتيه في غياهب المجاهيل.

وختاما، اقول انه لمن الغريب حقا، ان الدراسات تجد من بين ثنايا هذا الالم في حنين الانسان الی ماضيه، فائدة للانسان النوستاليجي في انه يحسّن المزاج، ويزيد الحيوية، ويقوي نفسيته لمواجهة الحاضر والاستعداد لمستقبل غامض.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *