مفهوم مبدأ تناسب العقوبة التأديبية مع الجريمة التأديبية

عبدالله شاخوان نجم الدين(*)

 

إن موضوع التناسب بين الجريمة التأديبية والعقوبة، يعتبر من أكثر المواضيع المثيرة للجدل بين الفقهاء. وقد حاولنا في بحثنا هذا أن نعالج إشكالية تمثلت في مدي التزام الإدارة بسلطة التناسب، ومدى خضوعها للرقابة القضائية عند ممارستها للسلطة التقديرية، ومن هنا بدت ضرورة العمل على تنظيم الرقابة الفعالة وفرضها على أعمال الإدارة، وخاصة في مجال العقوبات التأديبية، وذلك ضمانا لمبدأ المشروعية الذي يكفل تقييد السلطات العامة بقواعد القانون من خلال القيام برقابة قضائية على عناصر القرار الإداري، أما بالنسبة إلى عنصري المحل والسبب، فيتجسد فيهما عنصر التقدير، والذي عرف بالملائمة، والذي كان محظورًا سابقًا على القاضي الإداري إلا أنه تم إدخاله في نطاق المشروعية، وبالتالي أصبحت مشروعية القرار التأديبي مرهونة بخلوه من الغلو أو الخطأ الظاهر التي بها يستطيع القضاء الإداري ممارسة رقابته على الملائمة في مجال التأديب.

المقصود بمفهوم التناسب، هو أن لا تغلو السلطة المعنية بتحديد الجزاء في اختياره، ولا تركب متن الشطط في تقديره، وإنما عليها أن تتخير ما يكون على وجه اللزوم ضروريا لمواجهة الخرق القانوني أو المخالفة الإدارية وما يترتب على اقترافها من آثار، وما فيه القدر المتيقن من معقولية لردع المخالف، وجزر غيره عن أن يرتكب ذات فعله، ومن هنا تكون ضوابط الجزاء والعقاب موضوعية ويعتبر بالتالي كل تجاوز لهذه الضوابط تزايدا واستبدادا ينبغي رفضه.

إذا كانت الجهة الإدارية تتمتع بسلطات تقديرية واسعة بالنسبة لتوقيع الجزاء التأديبي، وذلك باعتبار أن ذلك من الأمور المتروكة لها بما لا معقب عليها فيها، بيد أن هذه السلطة مقيدة بقيود المصلحة العامة، وأن يكون الجزاء مناسبًا وملائمًا للجريمة التأديبية، وإلا كان تصرفها مشوبًا بعيب الانحراف بالسلطة والغلو في توقيع الجزاء. وعيب الانحراف بالسلطة التأديبية هو العيب الملازم لضمان سير المرفق العام، فرقابة القاضي الإداري بشأنه تتحدد بمدى ودرجة خروج سلطة التأديب عنه. ومن منطلق أهمية الرقابة القضائية التي تسعى إلى حماية مبدأ مشروعية الجزاء التأديبي، فإن تنظيم مسألة التناسب يعتبر من أهم وأقوى الضمانات المقررة لحماية حقوق الموظف العام، لأنه يتيح للموظف المتضرر الحق في مخاصمة السلطة التأديبية أمام القاضي الإداري باعتباره قاضي حامي للحقوق والحريات، من خلال البحث في التناسب بين الخطأ والعقوبة.

وقد أحكم القضاء الإداري في كل من مصر وفرنسا رقابته على عنصر التناسب بين الجزاء والمخالفة التأديبية، ففي فرنسا تصدى مجلس الدولة الفرنسي في العديد من أحكامه، بإلغائه كثيرًا من قرارات جهة الإدارة لعدم التناسب بين الجرم والجزاء، ووقوع الإدارة في الخطأ البين في التقدير. فلم تكن محكمة القضاء الإداري منذ فجر إنشائها تبسط رقابتها على خطورة الذنب الإداري أو مناسبة الجزاء لهذا الذنب، وتعلل ذلك بمقولة أن ملائمة الجزاء تدخل في إطار السلطة التقديرية لجهات التأديب. إلا أنها قد خرجت من هذا المبدأ باستثناء خاص بالطلبة والعُمد والمشايخ، واعتبرت أن الملائمة أحد شروط مشروعيتها، ولذلك باشرت رقابتها على ملائمة هذه القرارات لتتحقق من تكافؤ الجزاء مع الذنب، وذهبت في قضاء لها إلى “أن جهة الإدارة نسبت إلى أحد العمد تغيبه عن العمودية ليلة واحدة، وأنه تأخر في التبليغ عن حادث سرقة، ولهذان السببان قضي مجلس التأديب بفصله، وعندما طعن في الحكم قارنت المحكمة بين الخطأ التأديبي في حق العمدة والجزاء الموقع عليه؛ حيث قالت المحكمة أن القانون رقم 41 لسنة 47 الخاص بالعُمد والمشايخ لم يبين جميع المآخذ التي تستوجب محاكمة العمد والمشايخ، وإنما أشار إلى الأسباب التي تدعوا إلى إحالة أي منهما إلى لجنة للمشايخ وللجنة تحكم بالإنذار وبغرامة لا تتجاوز أربعين جنيهًا أو الفصل من الخدمة.”

أما المحكمة الإدارية العليا فقد اعتنقت أيضًا في بداية أحكامها نفس المبدأ الذى اعتنقته محاكم القضاء الإداري، وهو عدم الرقابة على التناسب بين العقوبة والجريمة وترك حرية التقدير للسلطة التأديبية على إطلاقها، إلا أنها عادت للخروج عن هذا المبدأ عندما ظهر لها العديد من العقوبات التأديبية التي تنطق بالمفارقات الصارخة، والغلو، وعدم الملائمة بين العقوبات والمخالفات التي وقعت من أجلها، فنقضت مذهبها القديم وقررت بسط رقابتها على تناسب الجزاء التأديبي مع الجريمة وملائمته، وقضت بإلغاء ما اعترته قرارات السلطة التأديبية من غلو، وأعلنت مبدأها في الرقابة لأول مرة في حكمها الصادر في 11/11/1961، والذي أقامت قضاؤها فيه بقولها “ولئن كانت للسلطات التأديبية ومن بينها المحاكم التأديبية سلطة تقدير خطورة الذنب الإداري وما يناسبه من جزاء بغير معقب عليها في ذلك، إلا أن مناط مشروعية هذه السلطة – شأنها شأن أي سلطة تقديرية أخرى- ألا يشوب استعمالها غلو، ومن صور هذا الغلو عدم الملائمة الظاهرة بين درجة خطورة الذنب الإداري وبين نوع الجزاء ومقداره، فهذه الصورة تتعارض ونتائج عدم الملائمة الظاهرة مع الهدف الذي يبتغيه القانون من التأديب.

وعليه، أن المستقر عليه فقهًا وقضاءً هو خضوع العقوبة التأديبية لمبدأ التناسب بينها وبين الجريمة التأديبية، وأن السلطة التأديبية وإن كان لها حرية تقدير العقوبة التي توقع على الموظف المخالف، إلا أن ذلك مرهون بعدم الغلو والإسراف في العقاب أو الرأفة فيه، فلابد أن تكون العقوبة الموقعة متناسبة مع الجريمة أو الذنب الإداري الذي ارتكبه الموظف العام. وفي سبيل الحصول على عقوبة عادلة ومنصفة، لابد من مراعاة واحترام السلطة التأديبية لمبدأ التناسب، خاصة وأنه يساعد في التوازن بين مبدأ فاعلية الإدارة في أداء واجباتها وانضباط العمل، ومبدأ ضمان حق الموظف العام في حصوله على عقوبة عادلة، ولقد كان لعدم ربط المشرع لكل جريمة من الجرائم التأديبية عقوبة معينة، أن يثار التساؤل حول مدى السلطة التقديرية لسلطة التأديب في توقيعها العقوبات التأديبية على الموظف المخالف، فالمشرع كما سبق ورأينا وإن كان قد حدد العقوبات على سبيل الحصر، إلا أنه لم يربط كل جريمة بعقوبة معينة، وهذه هي القاعدة العامة، وترك للسلطة التأديبية تقدير الجزاء الذي يستحقه الموظف الذي يرتكب عقوبة معينة، فهل يكون من حق السلطة التأديبية أن توقع أية عقوبة تراها ما دامت من العقوبات التي نص عليها المشرع؟ أم تخضع قراراتها في هذا الشأن للرقابة القضائية؟ والواقع فإن الفقه قد اختلف أول الأمر فهناك من رأى وجوب تمتع السلطات الرئاسية أيا كان نوعها رئاسية أم قضائية أم شبه قضائية، بالحرية المطلقة في تقدير العقوبة التأديبية المناسبة، وفقا لما ارتكبه الموظف من خطأ تأديبي، وأن تقدير مدى المناسبة والملائمة يجب أن يقتصر على السلطات التأديبية دون غيرها. في حين رأى جانب آخر وهو المستقر عليه فقها وقضاءً في الوقت الحالي، أن العقوبة التأديبية تخضع للرقابة القضائية وكقيد على حرية سلطات التأديب في تقدير العقوبة التأديبية([1])، ولمبدأ التناسب والملائمة، فيجب أن تكون عادلة ومناسبة للجريمة التأديبية التي ارتكبت، وذلك بأن تخلو من الإسراف في الشدة، أو الإمعان في الرأفة، لأن كلا الأمرين مجافِ للمصلحة العامة. وقد رأت المحكمة الإدارية العليا “التزام سلطة التأديب بمراعاة التناسب بين العقوبة المفروضة (الجزاء مع الجريمة التأديبية) وذلك إذا كانت المخالفة أو الذنب بسيط يكون الجزاء بسيط، وتصاعد الجزاء مع جسامة المخالفة.”

ويختلف مبدأ تناسب العقوبة عن مبدأ المساواة في العقوبة، والذي يعنى عدم اختلاف المعاملة العقابية بسبب اختلاف المراكز القانونية للعاملين من حيث نوعيتها أو درجتها في السلم الإداري. وتختص السلطة التأديبية بكافة أنواعها رئاسية أو قضائية أو شبه قضائية ، بإجراء تقدير الملائمة والمناسبة بين درجة خطورة الجريمة التأديبية ونوع ودرجة جسامة العقوبة الموقعة بمناسبتها، وذلك وفقا للظروف المختلفة لكل حالة على حدة، فهذه السلطة صاحبة السلطان شبه المطلق في القيام بتحقيق هذه المناسبة، وقد انتقد بعض الفقه المؤيد لفكرة الربط بين الجرائم والعقوبات التأديبية، هذه السلطة المطلقة للسلطات الرئاسية بينما أيدها البعض الآخر.

أما القضاء المصري فقد استقر في مراحله الأولى على منح السلطة التأديبية الحرية المطلقة في اختيار العقاب المناسب للجريمة المرتكبة، وذلك وفقًا لتقديرها المحض وفي ضوء وملابسات كل جريمة، ودون معقب عليها من أحكام القضاء، وذلك في الفترة السابقة على العام 1961.

ومما سبق يتضح أن الأصل في حق التأديب يعود إلى الإدارة التي يعمل بها الموظف، لأن التأديب يعتبر أحد عناصر السلطة التأديبية؛ فالإدارة هي الجهة المسؤولة عن انجاز المهام المعهود إليها، وتحقيق الأهداف الداخلة في اختصاصها عن طريق موظفيها، لذلك فمن الأمور المنطقية أن تتولى هذه الجهة مراقبة أعمالهم وكشف أخطائهم والتصرف إزائها، فالتأديب ليس امتيازًا تحكميًا للرئيس الإداري، وإنما هو مجموعة من المبادئ التي ينظم أحكامها القانون، بهدف ضمان حسن سير العمل داخل المرافق أو الهيئات العامة على اختلاف أنواعها، فهي قواعد تحكمها مبادئ موضوعية يمارسها الرئيس الإداري بصفته معبرًا عن إرادة الدولة، وليس له الحق في إساءة استخدامها، وإلا عُد تصرفه مشوبا بإساءة استعمال السلطة ومخالفة القانون. وتسري آثار القرارات التأديبية على المستقبل ولا تسري بأثر رجعي على الماضي وذلك احتراما للحقوق المكتسبة والمراكز القانونية التي تمت قبل صدور قرار التأديب. وأكدت الدساتير المصرية المتعاقبة على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، فقد نصت المادة (95) من الدستور المصري 2014م، على أن: “العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون، وتعتبر خاصية عدم الرجعية من أهم النتائج المترتبة على مبدأ شرعية الجزاء التأديبي، وهو ما يعني أن الجزاء التأديبي يعمل أثره من تاريخ صدوره، ولا يمتد إلى تاريخ ارتكاب الجزاء التأديبي بأثر رجعي أي قبل صدوره، ولا يمتد إلى تاريخ ارتكاب المخالفة التأديبية، ومن ثم فإن السلطة التأديبية لا تستطيع توقيع الجزاء التأديبي بأثر رجعي، أي قبل إصدارها مهما كانت درجة جسامة أو خطورة أو حداثة ارتكابها.”

فيما يتعلق بالقضاء الفرنسي، فقد اعتبر أن مبدأ رجعية القوانين من المبادئ الأساسية الهامة التي تحكم تطبيق الجزاء التأديبي. وعلى ذلك فإن أثر الجزاء التأديبي يترتب من تاريخ صدور القرار التأديبي بحيث لا ينسحب إلى تاريخ سابق عليه، كتاريخ ارتكاب المخالفة التأديبية مثلا، وبمفهوم المخالفة فتوقيع جزاء تأديبي على الموظف المخطئ ابتداء من تاريخ إتيانه للمخالفة التأديبية، يعد إهدارا لهذا المبدأ واعتداء على حقوق الموظف وبالتالي يكون قرار التأديب مشوبا بعدم المشروعية.

إن العقوبات التأديبية قد تنطوي على العديد من الآثار السلبية على الاستقرار النفسي أو المالي، أو قد يترتب عليها الفصل من الخدمة، إذ لا تقل أهمية عن آثار العقوبات الجنائية إن لم تزد عليها أحيانا.

(*)ماجستير في قانون العام

قسم القانون – جامعة تيشك الدولية – اربيل

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *