علي العاشق

د. فاضل علي غائب

مات اخر العاشقين وحيدا.. بعد سبعين عاما من العزلة وتسعين عاما من العمر. كان في شبابه انسانا مثل باقي البشر، واحبَّ ببساطة بنت قريته وهام بها حدَّ العظام لكنه لم ينلها. أبعدوها عنه وكاد ان يموت عشقاً. حمل رأسه وقلبه على راحتيه وهجر الديار الى غير رجعة. هامَ على وجهه في الجبال واقسم بان لن تكون في حياته امرأة بعدها. اعتزل الناس واستأنس كلَّ ما دون ذلك. انهكهُ يومهُ فجلس في احد الكهوف حائرا خائر القوى، يحتويه الحزن والوجع وذبلت عيناه. لم يكن يعلم بان ذلك الكهف الصغير في تلك الجبال الوعرة سيكون ملاذه وحياته وعمره وذكرياته ومعاشه وحزنه وآلام روحه وجسده. يوما بعد يوم وعاما بعد آخر تاهَ عنه الزمن فأضاع ايام الاسبوع والاشهر والسنين.

كانت صورة عشيقته مطبوعة في كل شيء جميل. كان يتخيلها في الأزهار الجبلية وفي نور الشمس ورذاذ المطر المنعش ونسمات الصباح الرائقة مثل وجهها. وكان موقنا بأنها ستظل هكذا حتى رمقه الأخير. لم يكن ليتخيل بأنه سيكون اسطورة العاشقين وشيخهم.

وحيدا في ذلك الكهف يفكر فيها وكأن الكون كله اصبح في قلبه دفعة واحده. اصبح الكهف والجبل والوديان والبرد والثلج والمطر والحيوانات المتوحشة والمسالمة في الجوار، وقيض الصيف وصفير ثمار المازي أنَساً لروحه. كل همسة من نسيم وكل رعدة من غيم وكل عواء لذئب وكل فحيح لأفعى، كان يذَّكره بها في وحدته القاتلة. أتُراها بين احضانه متدفئةً باسترخاء ام انها مضيئة بوحدتها تشرئِّب روحها نحو الجبل. هل تراها تعلم بي، اذوب ها هنا وحيدا كل الوحدة حين اتكور على ذاتي واصبح جزءا من الظلام وتضطرب ضربات قلبي مع سكون الليل المرعب؟

يجلس على صخرة مقابل القمر وقد نسي الكلام ويشك في ان له صوتا مسموعا. هناك في المنحدر ضجيج وصخب يمنعان عنه صوت شلال كلي علي بك. اناس كثيرون لا يرى ملامحهم. نساء ورجال واطفال وسيارات وربما عاشقون وعاشقات، مستسلمون ويختنق العشق في نفوسهم. يقول علي، بأنه واثق ان باستطاعته فرز كل العاشقين وتشخيصهم، فهو يشعر بهم ويعرفهم من بريق عيونهم. هدير الشلال يؤنسه في اوقات رحيلهم بعد انتصاف ليل الصيف. أما في ليل الشتاء فهناك صخب من نوع آخر مرعب وقاس. لا أحد غيره هناك وثورة الشلال هي الوحيدة التي تملأ روحه وتتقد نارا في قلبه. سبعون من السنين قد مرت عليه حيث بدأ شعاع حبيبته يخفت وباتت وحدته وعشقه يشبهان عشق الوهم حتى أن صورة عشيقته باتت باهتة وبعيدة مثل سراب الصيف الملتهب وكأنه هنا مرمي في هذا المكان الموحش لسبب اخر غير العشق.

أخيرا أغمض علي عينيه الغائرتين للمرة الأخيرة ولم يفتحهما بعد ذلك أبدا. فاضت روحه في بيت أوعز السيد رئيس الاقليم ببنائه ليسكن فيه في سنين عمره الأخيرة. حتى في موته كان وحيدا فريدا لم يجد من يواسيه أو يهون عليه. ودفن في قريته التي لم تطأها قدماه منذ سبعين عاما. دفنوا كتلة حزن ووفاء. واصبحت قصته بحق أسطورة لا تتكرر. مثل تلك القصص التي نقرأها في بعض الكتب لكننا لم نعاصرها.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *