القول بـ(أن الإنسان اجتماعيٌ بطبعه)، خطلٌ كبير

ا. م. د. عدنان عبدالله رشيد

 

دأب كل قانونيٍ أن يعرج في معرض كلامه عن القانون إلى القول بأن الإنسان اجتماعيٌ بطبعه، وذلك لكي يبني على هذا القول نتائج قد أعدّ لها نفسه سلفاً.

ان أول من أطلق عبارة (الإنسان اجتماعيٌ بطبعه) هو أرسطو – حسبما نعلم -. ولربما يكون أرسطو بدوره قد اقتبسها ممن سبقوه، لكنها وصلت إلينا عن طريق أرسطو وتلامذته. وقد أصبح الاقتباس من أرسطو – في فلتة من فلتات التاريخ – موضة الموضات، حتى قلّده في هذا؛ الفلاسفة، بل وحتى الكُتّاب العاديون إعجاباً منهم بأرسطو، وإيماناً منهم بأنهم أقل شأناً منه وأقل علماً، فلا يجب عليهم أن يعارضوه لأنه المعلم الأول والأب الروحي لمعظم العلـوم، كما كان يظن القدماء، تغمد أرواحهم السلام.

ولا أظنني أذهب بعيداً عن الحقيقة، إذا ما قلتُ إن البعض حتى الآن يعتبرون كتابات أرسطو بديهيات مسلّمة وحقائق أزلية، باقية ما بقيت الحياة لا تتبدل ولا تتغير. ولا أدّل على هؤلاء البعض من أولئك القانونيين الذين يرددون، صباحاً ومساءاً، بمناسبةٍ وبدون مناسبة: الإنسان اجتماعيٌ بطبعه.

 

(1)

إن النظريات المتداولة هذه الأيام التي تفسّر أصل الإنسان، ما هي إلا مجموعتان من النظريات. فلنصطلح على تسميتهما بالنظريات الدينية والنظريات العلمية. فالنظريات الدينية تُعزي خلق الإنسان الأول إلى الإرادة الإلهية، التي شاءت أن تخلق هذا الكائن. وتمضي تلكم النظريات الدينية فتقول: إن الإنسان الأول خُلق كاملاً، كما نراه اليوم.

أما النظريات العلمية، فهي تُرجع أصل الإنسان الأول إلى انحداره من كائن مجهري دقيق أُطلق عليه (البوليب). وكان هذا البوليب يعيش في بركة مياهٍ راكدة، وبعد عدة مراحل تطورية ارتقى هذا الكائن إلى كائنٍ برمائي، إلى أن استقر في شكله الإنساني، على ما نراه اليوم كاملاً. وبعيداً عن الخلافات الدائرة بين تلكم النظريات؛ العلمية والدينية، لأن كلا الفريقين قد أفاض في إيراد الأدلة والبراهين التي تثبت صحة رأيه على حساب تقويض الرأي الآخر، فان الملفت للنظر والاستغراب، إن كلتا النظريتين وإنْ اختلفتا في المسائل الجوهرية، لكنهما متفقتان إنْ الإنسان الأول وجد منفرداً، وحيداً، أول ما وجد. ثم تناسل مُكثراً من وراءه الأبناء والأحفاد، حتى ملئوا الأرض – لا أدري – أخيراً أم شراً، لأن الخير والشر أمران اعتباريان. فلا يوجد معيار متفقٌ عليه ننتقي به الخير من الشر.

 

(2)

يتفقُ معظم المختصين والمتضلعين بدراسة تاريخ الإنسان، إن البشرية مرّت بمراحل عدة خلال مسيرتها الطويلة من الحياة. فقد مرّ الإنسان بمرحلة جمع القوت، ثم مالَ إلى الصيد والقنص، دون أن يترك المرحلة الأولى خلفه، فقد حملها معه. ثم تنبّه إلى الزراعة وأكتشف الصناعة.. إلخ.

عاش الإنسان الأول دهوراً لا يقيده شيءٌ من المسميات التي نتداولها هذه الأيام كالضمير والأخلاق أو القانون، إذ لم يكن قد اكتشفت حينها. بل عاش حُراً يجمع قوته أنى شاء دون منعٍ أو معارضة، وربما كان ذلك بسبب سعة اليابسة وقلّة عدد الناس، تلكم الأيام. وهنا يجد الذين يقولون بـ(طبيعة الإنسان الاجتماعية) ضالتهم. فالإنسان عاش مع بني جنسه في ظل جماعةٍ معينة ولم يعش وحيداً، منفرداً.. وكان الناس متضامنين فيما بينهم من أجل التغلب على الظروف الحياتية الصعبة آنذاك، ودرء للمخاطر التي قد تظهر لهم بين الفينة وأخرى. لكن هذا – قطعاً – لا يعني إن الإنسان أحب العيش مع الآخرين على العيش بمفرده، لأن القول بأن الإنسان فُرض عليه العيش في الجماعة غير القول بأنه عاش في كنف الجماعة حُباً ببني البشر الآخرين.

كانت الجماعة هذه – بطبيعة الحال – مكوّنة من كلا الجنسين، الذكر والأُنثى، وكان الرجل يجمع قوته وكانت المرأة تجمع قوتها. وكانت النساء مُشاعة بين الرجال، والرجال مشاعون بين النساء. وإن حُب الذات والأنانية، دفعتا بالرجل الذي هو أقوى بُنيةً من المرأة، وأشدُ عضلاً منها إلى المغامرة وخطف أُنثى من جملة الإناث، يستأثر بها وحده وتستأثر به وحدها دون الآخرين والأخريات. وربما كان ذلك أول أشكال الملكية الخاصة، حتى قبل بزوغ القانون ولو في أشكاله البدائية الأولى.

لكن هربهما – أعني الرجل والمرأة – لم يكن ليطول كثيراً، حتى يعاودهما فكرة العودة إلى الجماعة والتنعم بحمايتها لهما من الكواسر والجوارح والمفترسات. فيعودان إلى الجماعة مُظهريّن ندمهما، فيندمجان من جديد في الجماعة الجديدة، التي ربما هي الجماعة السابقة لهما أو جماعة أخرى لا تربطهما بها رابطة. وإن العُرف السائد في هذه الجماعات البدائية، هو إن النساء والرجال مُشاعون. فكان يصعب على هذا الرجل المندمج حديثاً في الجماعة مع أُنثاه، والذي ذاق طعم الملكية الخاصة، كان يصعب عليه أن يدع الآخرين يستمتعون بامرأته، فتثور ثائرته ويمنع الآخرين أن يتقربوا منها، فتحصل المشاجرات والمشاحنات. فكانت أولى معارك التأريخ من أجل

النساء، ومن يدري فلربما ستكون آخر معارك التأريخ بسببهن أيضاً.

 

(3)

وما يمكنني أن أُردد جازماً، إن الخوف كان هو الهاجس الأكبر، الرئيسي، الذي دفع بالإنسان إلى الانخراط في صفوف الجماعات ومحاولته كبت حبه للانفراد، خاصةً إذا عرفنا بأن الإنسان في مرحلة اكتشافه الزراعة اهتدى إلى بناء المساكن التي تحميه من شر البرد والحيوان، وبعدما عرف صناعة الأسلحة وما يستر الأجسام، قد تغلّب على هذا الخوف وتنعّم بقدرٍ من الأمن والأمان..

إذاً، ألا يقوض هذا نظريتنا؟ أو إنه يجعلها أمتن؟ فإذن لا مناص لنا من البحث عن سببٍ آخر، أهم من كل الأسباب التي أتينا على ذكرها، قد دفع بالإنسان للانضمام إلى الجماعة بعد تغلّبه على الخوف..

لا يستطيع أحدُ الإنكار بأن الإنسان معجب بنفسه أشد الإعجاب، وإنه لا يبخل بجهد يظهره بمظهر الذكاء والغلبة، فالإنسان عندما عجز عن الحصول على إكسير الخلود، استعاض عنه ببدائل الخلود. وما كانت هذه البدائل إلا رغبات ونزوات نفسية، عليه أن يشبعهن. ومن بينهن رغبته في شدّ انتباه الآخرين إلى شخصه. فحاول إشباع تلكم الرغبات، ولو كان ذلك مقابل تخليه عن نزواتٍ أقل تأثيراً فيه.

إن الإنسان مهما حاول فلن يستطيع وحده أن يشبع الرغبة الكامنة في نفسه التي تقول: إنه أفضل الناس، وإنه أحسن الناس وإنه أذكى الناس، وإنه أجمل الناس.. لأنه يحتاج إلى من يمدحه ويصفق له ويُشيد به، وبهذا يُرضي نزواته. وهذه النزوات موجودة في كل البشر، حتى في نفوس أشد الناس زهداً ولكن بدرجةٍ أقل. فالناس كالمرآة، لابد للإنسان أن يقف أمامها يومياً كي ينظر إلى جماله الفتّان، ويتفنن في إجماله أكثر، حتى يُرضي طموحه، ويجعل الآخرين معجبين به.

 

(4)

وجميع الروايات التاريخية عن العظماء والعباقرة، مُجمعة على إن هؤلاء لم يُبدعوا إلا بعدما خلوا إلى أنفسهم وانفردوا بها بعيداً عن قيود الجماعة التي تؤويهم، لأن الإنسان بانفراده يتحرر نسبياً من تلك القيود غير المرئية، والتي تكبّله من أخمص القدمين إلى أصلع الرأس، فلا يستطيع أن يأتي بجديدٍ إلا في فترات الخلوة تلك.

وإذا شئت فأقرأ سيرة النبي محمد إنه كان معتزلاً عن الناس، قبل أن يقوم بإذاعة دينه الجديد. وابن خلدون، ذلك العبقري الجليل، لم تستطع قريحته أنْ تخصب وتتدفق، إلا حين اختلى إلى نفسه في قلعة بني سلامة، وكثيرون آخرون، غيرهما.

وكل هذا غيضٌ من فيض. أفلا يدّل على إن الإنسان أنانيٌ بطبعه، مُحبٌ للانفراد بطبعه، وإن هذا هو الأصل وما عيشه في الجماعة باعتباره ظرفاً طارئا، إلا استثناء من القاعدة، فُرضت عليه فرضاً واضطر إلى ذلك اضطراراً. فلا يستطيع الحيود عنها، وإنْ حاول.

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *