خواطر: خربشات آخر الليل



د. فاضل علي غائب

قسم هندسة النفط والتعدين-جامعة تيشك الدولية – أربيل

(1)

اللحظة الأقسى

معظمنا قرأ أو سمع عن دوستوفسكي وهو محكوم بالاعدام.. ينتظر التنفيذ في فجر ما حين سيفتحون زنزانته ليقودوه يائسا بلا حول ولا قوة الى حيث الموت المحقق.. كم هي المعاناة والالم والحزن واللوم وتزاحم الذكريات بل وحتى بصيص امل في تغيير الحكم.. ربما هو واحد من كثيرين عاشوا هذه المحنة (انتظار الموت المحتم). أنا أتساءل هل يستطيع المرء النوم والاكل والشرب والكلام والكتابة وهو ينتظر لحظة فتح باب زنزانته ليقاد بلا حول ولا قوة الى حبل المشنقة المرعب؟ واجيب بنعم، فنحن المغروسين في عمق الحياة نتصرف هكذا!
نحن في خضم حياتنا نأكل ونشرب ونتحدث ونعمل ونحب ونكره ونمارس الخير والشر ونحزن ونسعد ونتمسك بالأصدقاء النادرين، ونعلم علم اليقين بأن لحظة ما قادمة، ليس فجر الغد بل ربما بعد لحظة واحدة سيداهمنا الموت. ولقد رأى كل منا عشرات الأمثلة امامه، فكم سرق الموت احبابا لنا تخيلنا أنهم دائمون وباقون ونستند عليهم مثل الجدران المتينة، وفي لحظة جنونية نجد أنفسنا وحيدين بلا سند. الفرق بيننا وبين دوستوفسكي انه كان محاطا بسياج ضيّق انما نحن فسياجنا فسيح ممتد حتى اللانهاية ومع ذلك يطالنا الموت من حيث لا ندري. الدنيا سجن كبير واحتفال تنكري بامتياز.

(2)

 السهل المنطفئ

هناك في السهول المجاورة كان لي وطن ام ولغة… وكثير من الأحبة والأحلام.. كانت القرى وديعة، فقيرة، وحنونة.. احتضنت اطرافها رفات ابي واجدادي.. ولدت هناك حيث برد الشتاء كان قاسيا وحرارة  الصيف كانت تلهب اجسادنا.. كبرنا وكبرت معنا أحلامنا وانتقلنا من هناك الى المدينة التي لفظتنا بعد حين.. وتنقلنا بين هنا وهناك وتركت في الافق تلك الرفات ومزارع القمح والشعير وبدأت التعامل مع الحروف والارقام حتى وصلت الى هنا حيث امتلأت حياتي حد التخمة بالأحداث والمشاغل..

غابت الشمس ذات يوم ملتهب وكانت تلك اشراقتها الأخيرة.. هناك وطني الآن تحت اقدام الليل الدائم.. كل الأشياء باتت بلون ليل بلا قمر او نجوم.. جدران بيوتنا وحقولنا وفضائنا وخيالنا واشيائنا وضحكات اطفالنا وحكمة شيوخنا هي الأخرى توشحت بالسواد.. باتت معتمة.. عندما اغمض عيني اراها مثل الأشباح.    

يقولون بان ابواب بيوتنا مفتوحة قسرا.. يدخلها الجرذان والذباب والكلاب وبعض البشر.. يبحثون عن الجنة وحدائقها وسواقيها من العسل واللبن والخمر.. والنساء.. يقولون بان السواد مفتاح كل تلك النعم.. تاركين كل الوان الطبيعة الجميلة الزاهية المبهجة ويدوسون بأقدامهم الطيف والأزهار.

مئات الآلاف شمالا وشرقا ينظرون بعين دامعة ومتعبة وذابلة الى تلك التي اصبحت اطلالا طمرت ما تبقى من آمال واحلام.. لقد شبعوا حزنا والما ويحق ان اقدم لهم باقة ورد علها تعيد الابتسامة المفقودة منذ تلك الليلة التي غابت فيها الشمس.. ولم تعد.

(3)

ذات ليلة ممطرة

كان المطر ينقر بحنان وهدوء زجاج نافذتي المطلة على الحديقة التي استحالت الى بركة ماء حيث المطر ينهمر لليوم الثالث. بدأ نور الفجر الرمادي يستجمع نفسه وغمرتني مجموعة من الخواطر. منذ زمن بعيد تعودت ان لا افوت التمتع بأولى موجات المطر ابتداء برائحة الارض المعطرة. صاحبت الأمطار رشقات برق تتلوها اصوات الرعد المرعدة. كان ذلك كافيا ليشعرني بالفرح والحزن معا. فرح بمشاهدة منظر احتفالي تفاعلي بين السماء والأرض.

 مليارات قطرات الماء تغسل وجه الأرض المترب، تتغلغل في تشققاته ومساماته وتنساب في اخاديده. بين حين واخر تضئ السماء بلون ابيض، يسرق الانظار بعيدا فانظر خارجا لأرى الأشجار الواطئة في حديقتي وتلك الباسقة بعيدا عبر الشارع تتمايل بغنج حيث آلاف العصافير ترقد مبللة تنتظر الصباح لتنتشر بجنون في انحاء المدينة وتعود اخر النهار بصخب وثرثرة وتأخذ اماكنها.

صوت المطر والايقاع المبعثر للرعد لا مثيل له في اي موسيقى، لا بتهوفن ولا تشايكوفسكي ولا موزارت ولا غيرهم . صوت يأخذني بعيدا الى عالم يشبه الحلم الساحر، يعطيني احساسا لمواصلة الحياة والتمتع بهذه الحفلة المجانية حيث ليست لدي رغبة في النوم وترك كل هذا. ان الشتاء وامطاره يتكرر منذ الأزل، اما انا فلن اتكرر كثيرا. هذا هو الجانب المحزن حيث يركبني الاحساس بعدم الأمان وان تلك الاحتفالية ما هي الا فرح الأشياء والكائنات الخارجة عني وما انا الا مراقب وضيف عابر لن البث ان اغادر تاركا كل هذا الفرح.

في خضم ذلك تذكرت وبألم شديد مخيمات لاجئين هاربين من جحيم الدولة الاسلامية… هناك ليس بعيدا عني.. نفس هذه الأمطار التي ابتهجت لها تلطم بعنف خدودا طرية لأطفال لم يعرفوا بعد معنى الفرح… هناك تنهار خيمهم البسيطة ويصبحون في العراء ويتلامسون مع هذه الأمطار التي اسعدتني.. ابائهم وامهاتهم يحتضنونهم بقوة واصرار رافعين ايديهم الى الأعلى دون جدوى. هناك حيث الظلم الانساني وافعال الطبيعة.. الذين تسببوا في هذا الظلم يرقدون قرير العين ويملؤون شاشاتنا الملونة بالأكاذيب والنصائح والوعود ويرتدون الأربطة والبدلات الفاخرة والعمائم السوداء والبيضاء وانواع نادره من الخواتم… ترى لماذا لا نجد بين هؤلاء المبللين في الخيم أيا من العمائم وربطات العنق!

كان ذلك افسد علي فرحي الخاص وحزني الخاص بمقدم هذا الشتاء… احال كل شيء الى عبث… اليس كل ما يحدث شيء من العبث المجنون… انه وجود عبثي هذا الذي حولنا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *